عقد الصُلْح في
الشريعة الإسلامية
(
الجزء الأول )
المصدر
http://www.arlawfirm.com/
التّعريف :
الصّلح في اللّغة :
اسم بمعنى المصالحة والتّصالح ، خلاف المخاصمة والتّخاصم .
قال الرّاغب :
والصّلح يختصّ بإزالة النّفار بين النّاس . يقال : اصطلحوا وتصالحوا .
وعلى ذلك يقال : وقع
بينهما الصّلح ، وصالحه على كذا ، وتصالحا عليه واصطلحا ، وهم لنا صلح ، أي
مصالحون .
وفي الاصطلاح :
معاقدة يرتفع بها النّزاع بين الخصوم ، ويتوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين .
فهو عقد وضع لرفع
المنازعة بعد وقوعها بالتّراضي ، وهذا عند الحنفيّة .
وزاد المالكيّة على
هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقاية ، فجاء في تعريف ابن
عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ففي
التّعبير ب ( خوف وقوعه ) إشارة إلى جواز الصّلح لتوقّي منازعةً غير قائمة بالفعل
، ولكنّها محتملة الوقوع .
والمصالح : هو
المباشر لعقد الصّلح والمصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه إذا قطع النّزاع فيه
بالصّلح والمصالح عليه ، أو المصالح به : هو بدل الصّلح .
الألفاظ ذات
الصّلة :
أ - التّحكيم :
التّحكيم عند الفقهاء
: تولية حكم لفصل خصومة بين مختلفين . وهذه التّولية قد تكون من القاضي
، وقد تكون من قبل الخصمين .
ويختلف التّحكيم عن
الصّلح من وجهين :
أحدهما : أنّ
التّحكيم ينتج عنه حكم قضائيّ ، بخلاف الصّلح فإنّه ينتج عنه عقد يتراضى عليه
الطّرفان المتنازعان . وفرق بين الحكم القضائيّ والعقد الرّضائيّ .
والثّاني : أنّ
الصّلح يتنزّل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حقّ ، بخلاف التّحكيم فليس فيه نزول
عن حقّ .
ب - الإبراء :
الإبراء عبارة عن :
إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . أمّا عن العلاقة بين الصّلح والإبراء
، فلها وجهان :
أحدهما : أنّ الصّلح
إنّما يكون بعد النّزاع عادةً ، والإبراء لا يشترط فيه ذلك .
والثّاني : أنّ
الصّلح قد يتضمّن إبراءً ، وذلك إذا كان فيه إسقاط لجزء من الحقّ المتنازع فيه،
وقد لا يتضمّن الإبراء ، بأن يكون مقابل التزام من الطّرف الآخر دون إسقاط .
ومن هنا : كان بين
الصّلح والإبراء عموم وخصوص من وجه ، فيجتمعان في الإبراء بمقابل في حالة النّزاع
، وينفرد الإبراء في الإسقاط مجّاناً ، أو في غير حالة النّزاع ، كما ينفرد الصّلح
فيما إذا كان بدل الصّلح عوضًا لا إسقاط فيه .
ج - العفو :
العفو : هو التّرك
والمحو ، ومنه : عفا اللّه عنك . أي محا ذنوبك ، وترك عقوبتك على اقترافها . عفوت
عن الحقّ : أسقطته . كأنّك محوته عن الّذي هو عليه .
هذا ويختلف العفو عن
الصّلح في كون الأوّل إنّما يقع ويصدر من طرف واحد ، بينما الصّلح إنّما يكون بين
طرفين . ومن جهة أخرى : فالعفو والصّلح قد يجتمعان كما في حالة العفو عن القصاص
إلى مال .
مشروعيّة
الصّلح :
ثبتت مشروعيّة الصّلح
بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .
أمّا الكتاب :
أ - ففي قوله تعالى : { لاَ
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } قال القاضي أبو
الوليد بن رشد : وهذا عامّ في الدّماء والأموال والأعراض ، وفي كلّ شيء يقع
التّداعي والاختلاف فيه بين المسلمين .
ب - وفي قوله تعالى : { وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ
عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فقد
أفادت الآية مشروعيّة الصّلح ، حيث إنّه سبحانه وصف الصّلح بأنّه خير ، ولا يوصف
بالخيريّة إلاّ ما كان مشروعاً مأذوناً فيه .
وأمّا السّنّة :
أ - فما روى أبو
هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلح
جائز بين المسلمين » . وفي رواية : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم
حلالاً » . والحديث واضح الدّلالة على مشروعيّة الصّلح .
ب - وما روى «
كعب بن مالك - رضي الله عنه أنّه لمّا تنازع مع ابن أبي حدرد في دين على ابن أبي
حدرد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلح بينهما : بأن استوضع من دين كعب
الشّطر ، وأمر غريمه بأداء الشّطر » .
وأمّا الإجماع :
فقد أجمع الفقهاء على
مشروعيّة الصّلح في الجملة ، وإن كان بينهم اختلاف في جواز بعض صوره .
وأمّا المعقول :
فهو أنّ الصّلح رافع
لفساد واقع ، أو متوقّع بين المؤمنين ، إذ أكثر ما يكون الصّلح عند النّزاع .
والنّزاع سبب الفساد ، والصّلح يهدمه ويرفعه ، ولهذا كان من أجلّ المحاسن .
أنواع الصّلح :
الصّلح يتنوّع
أنواعاً خمسةً :
أحدهما : الصّلح بين
المسلمين والكفّار . ( ر . جهاد ، جزية ، عهد ، هدنة ) .
والثّاني : الصّلح
بين أهل العدل وأهل البغي . ( ر . بغاة ) .
والثّالث : الصّلح
بين الزّوجين إذا خيف الشّقاق بينهما ، أو خافت الزّوجة إعراض الزّوج عنها .
والرّابع : الصّلح
بين المتخاصمين في غير مال . كما في جنايات العمد .
والخامس : الصّلح بين
المتخاصمين في الأموال . وهذا النّوع هو المبوّب له في كتب الفقه ، وهو موضوع هذا
البحث .
الحكم التّكليفيّ
للصّلح :
قال ابن عرفة : وهو -
أي الصّلح - من حيث ذاته مندوب إليه ، وقد يعرض وجوبه عند تعيّن مصلحة ، وحرمته
وكراهته لاستلزامه مفسدةً واجبة الدّرء أو راجحته .
وقال ابن القيّم :
الصّلح نوعان :
أ - صلح عادل جائز .
وهو ما كان مبناه رضا اللّه سبحانه ورضا الخصمين ، وأساسه العلم والعدل ، فيكون
المصالح عالماً بالوقائع ، عارفاً بالواجب ، قاصداً للعدل كما قال سبحانه : { فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } .
ب - وصلح جائر مردود
: وهو الّذي يحلّ الحرام أو يحرّم الحلال ، كالصّلح الّذي يتضمّن أكل الرّبا ، أو
إسقاط الواجب ، أو ظلم ثالث ، وكما في الإصلاح بين القويّ الظّالم والخصم الضّعيف
المظلوم بما يرضي المقتدر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظّ ، بينما يقع الإغماض
والحيف فيه على الضّعيف ، أو لا يمكّن ذلك المظلوم من أخذ حقّه .
ردّ القاضي الخصوم
إلى الصّلح :
جاء في "
البدائع " : ولا بأس أن يردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح إن طمع منهم ذلك ، قال
اللّه تعالى : {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فكان الرّدّ للصّلح ردّاً للخير . وقال عمر بن
الخطّاب رضي الله عنه : " ردّوا الخصوم حتّى يصطلحوا ، فإنّ فصل
القضاء يورث بينهم الضّغائن ". فندب - رضي الله عنه - القضاة إلى الصّلح
ونبّه على المعنى ، وهو حصول المقصود من غير ضغينة . ولا يزيد على مرّة أو مرّتين
، فإن اصطلحا ، وإلاّ قضى بينهما بما يوجب الشّرع . وإن لم يطمع منهم فلا يردّهم
إليه ، بل ينفّذ القضاء فيهم ؛ لأنّه لا فائدة في الرّدّ .
حقيقة الصّلح :
يرى جمهور الفقهاء
أنّ عقد الصّلح ليس عقداً مستقلّاً قائماً بذاته في شروطه وأحكامه، بل هو متفرّع
عن غيره في ذلك ، بمعنى : أنّه تسري عليه أحكام أقرب العقود إليه شبهاً بحسب
مضمونه . فالصّلح عن مال بمال يعتبر في حكم البيع ، والصّلح عن مال بمنفعة يعدّ في
حكم الإجارة ، والصّلح على بعض العين المدّعاة هبة بعض المدّعى لمن هو في يده،
والصّلح عن نقد بنقد له حكم الصّرف ، والصّلح عن مال معيّن بموصوف في الذّمّة في
حكم السّلم ، والصّلح في دعوى الدّين على أن يأخذ المدّعي أقلّ من المطلوب ليترك
دعواه يعتبر أخذًا لبعض الحقّ ، وإبراءً عن الباقي ... إلخ .
وثمرة ذلك : أن تجري
على الصّلح أحكام العقد الّذي اعتبر به وتراعى فيه شروطه ومتطلّباته . قال
الزّيلعيّ : وهذا لأنّ الأصل في الصّلح أن يحمل على أشبه العقود به ، فتجري عليه
أحكامه ؛ لأنّ العبرة للمعاني دون الصّورة .
أقسام الصّلح :
الصّلح إمّا أن يكون
بين المدّعي والمدّعى عليه ، وإمّا أن يكون بين المدّعي والأجنبيّ المتوسّط ،
وينقسم إلى ثلاثة أقسام ، صلح عن الإقرار ، وصلح عن الإنكار ، وصلح عن
السّكوت .
الصّلح بين المدّعي
والمدّعى عليه :
وهو ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل :
الصّلح مع إقرار
المدّعى عليه :
وهو جائز باتّفاق
الفقهاء . وهو ضربان : صلح عن الأعيان ، صلح عن الدّيون .
أ - الصّلح عن
الأعيان . وهو نوعان : صلح الحطيطة ، وصلح المعاوضة .
أوّلاً : صلح الحطيطة
:
وهو الّذي يجري على
بعض العين المدّعاة ، كمن صالح من الدّار المدّعاة على نصفها أو ثلثها . وقد اختلف
الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال .
أحدها : للمالكيّة ،
وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : وهو أنّه يعدّ من قبيل هبة بعض
المدّعى لمن هو في يده ، فتثبت فيه أحكام الهبة ، سواء وقع بلفظ الهبة أو بلفظ
الصّلح .
قال الشّافعيّة :
لأنّ الخاصّيّة الّتي يفتقر إليها لفظ الصّلح ، وهي سبق الخصومة قد حصلت .
والثّاني : للحنابلة ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة : وهو أنّه إذا كان له في
يده عين ، فقال المقرّ له : وهبتك نصفها ، فأعطني بقيّتها ، فيصحّ ويعتبر له شروط
الهبة ؛ لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من هبة بعض حقّه ، كما لا يمنع من استيفائه ،
ما لم يقع ذلك بلفظ الصّلح، فإنّه لا يصحّ ؛ لأنّه يكون قد صالح عن بعض ماله ببعضه
، فهو هضم للحقّ ، أو بشرط أن يعطيه الباقي ، كقوله : على أن تعطيني كذا منه أو
تعوّضني منه بكذا ؛ لأنّه يقتضي المعاوضة ، فكأنّه عاوض عن بعض حقّه ببعضه ،
والمعاوضة عن الشّيء ببعضه محظورة ، أو يمنعه حقّه بدون الصّلح ، فإنّه
لا يصحّ كذلك .
والثّالث : للحنفيّة
: وهو أنّه لو ادّعى شخص على آخر داراً ، حصل الصّلح على قسم معيّن منها ، فهناك
قولان في المذهب :
أحدهما : لا يصحّ هذا
الصّلح ، وللمدّعي الادّعاء بعد ذلك بباقي الدّار ؛ لأنّ الصّلح إذا وقع على بعض
المدّعى به يكون المدّعي قد استوفى بعض حقّه ، وأسقط البعض الآخر ، إلاّ أنّ
الإسقاط عن الأعيان باطل ، فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ، كما أنّ بعض المدّعى
به لا يكون عوضاً عن كلّه ، حيث يكون ذلك بمثابة أنّ الشّيء يكون عوضاً عن نفسه ،
إذ البعض داخل ضمن الكلّ .
والثّاني : يصحّ هذا
الصّلح ، ولا تسمع الدّعوى في باقيها بعده ، وهو ظاهر الرّواية ؛ لأنّ الإبراء عن
بعض العين المدّعى بها إبراء في الحقيقة عن دعوى ذلك البعض ، فالصّلح صحيح ولا
تسمع الدّعوى بعده .
أمّا لو صالحه على
منفعة العين المدّعاة ، بأن صالحه عن بيت ادّعى عليه به وأقرّ له به على سكناه
مدّةً معلومةً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك الصّلح على قولين :
أحدهما : الجواز وهو
قول الحنفيّة : ويعتبر إجارةً . وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ ، ويعتبر إعارةً ؛
فتثبت فيه أحكامها . فإن عيّن مدّةً فإعارة مؤقّتة ، وإلاّ فمطلقة .
والثّاني : عدم
الجواز ، وهو للحنابلة ووجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّه صالحه عن ملكه على منفعة ملكه
، فكأنّه ابتاع داره بمنفعتها ، وهو لا يجوز .
ثانياً : صلح
المعاوضة :
وهو الّذي يجري على
غير العين المدّعاة ، كأن ادّعى عليه داراً ، فأقرّ له بها ثمّ صالحه منها على ثوب
أو دار أخرى .
وهو جائز صحيح
باتّفاق الفقهاء ، ويعدّ بيعاً ، وإن عقد بلفظ الصّلح ؛ لأنّه مبادلة مال بمال،
ويشترط فيه جميع شروط البيع : كمعلوميّة البدل ، والقدرة على التّسليم ، والتّقابض
في المجلس إن جرى بين العوضين ربا النّسيئة .
كذلك تتعلّق به جميع
أحكام البيع : كالرّدّ بالعيب ، وحقّ الشّفعة ، والمنع من التّصرّف قبل القبض ونحو
ذلك ، كما يفسد بالغرر والجهالة الفاحشة والشّروط المفسدة للبيع .
ولو صالحه من العين
المدّعاة على منفعة عين أخرى ، كما إذا ادّعى على رجل شيئاً ، فأقرّ به ، ثمّ
صالحه على سكنى داره ، أو ركوب دابّته ، أو لبس ثوبه مدّةً معلومةً فلا خلاف بين
الفقهاء في جواز هذا الصّلح ، وأنّه يكون إجارةً ، وتترتّب عليه سائر أحكامها ؛
لأنّ العبرة للمعاني ، فوجب حمل الصّلح عليها ، لوجود معناها فيها ، وهو تمليك
المنافع بعوض .
ب - الصّلح عن الدّين
:
وذلك مثل أن يدّعي
شخص على آخر ديناً ، فيقرّ المدّعى عليه له به ، ثمّ يصالحه على بعضه ، أو على مال
غيره . وهو جائز - في الجملة - باتّفاق الفقهاء ، وإن كان ثمّة اختلاف بينهم في
بعض صوره وحالاته .
وهو عند الفقهاء
نوعان : صلح إسقاط وإبراء ، وصلح معاوضة .
أوّلاً : صلح الإسقاط
والإبراء :
ويسمّى عند
الشّافعيّة صلح الحطيطة .
وهو الّذي يجري على
بعض الدّين المدّعى ، وصورته بلفظ الصّلح ، أن يقول المقرّ له : صالحتك على الألف
الحالّ الّذي لي عليك على خمسمائة .
وقد اختلف الفقهاء في
حكمه على قولين :
أحدهما : للحنفيّة
والمالكيّة والشّافعيّة ، هو أنّ هذا الصّلح جائز ؛ إذ هو أخذ لبعض حقّه وإسقاط
لباقيه ، لا معاوضة ، ويعتبر إبراءً للمدّعى عليه عن بعض الدّين ؛ لأنّه معناه .
ثمّ قال الشّافعيّة :
ويصحّ بلفظ الإبراء والحطّ ونحوهما ، كالإسقاط والهبة والتّرك والإحلال والتّحليل
والعفو والوضع ، ولا يشترط حينئذ القبول على المذهب ، سواء قلنا : إنّ الإبراء
تمليك أم إسقاط . كما يصحّ بلفظ الصّلح في الأصحّ . وفي اشتراط القبول إذا وقع به
وجهان -كالوجهين فيما لو قال لمن عليه دين : وهبته لك - والأصحّ الاشتراط ؛ لأنّ
اللّفظ بوضعه يقتضيه .
والثّاني : للحنابلة
: وهو أنّه إذا كان لرجل على آخر دين ، فوضع عنه بعض حقّه ، وأخذ منه الباقي ، كان
ذلك جائزاً لهما إذا كان بلفظ الإبراء ، وكانت البراءة مطلقةً من غير شرط إعطاء
الباقي ، كقول الدّائن : على أن تعطيني كذا منه ، ولم يمتنع المدّعى عليه من إعطاء
بعض حقّه إلاّ بإسقاط بعضه الآخر . فإن تطوّع المقرّ له بإسقاط بعض حقّه بطيب نفسه
جاز، غير أنّ ذلك ليس بصلح ولا من باب الصّلح بسبيل .
أمّا إذا وقع ذلك
بلفظ الصّلح فأشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد : أنّه لا يصحّ ، وهي الرّواية
الأصحّ في المذهب ؛ وذلك لأنّه صالح عن بعض ماله ببعضه ، فكان هضماً للحقّ .
والثّانية : وهي ظاهر
" الموجز " " والتّبصرة " أنّه يصحّ .
أمّا لو صالحه عن ألف
مؤجّل على خمسمائة معجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور
الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والصّحيح عند الحنابلة أنّ ذلك لا
يجوز .
واستثنى الحنفيّة
والحنابلة من ذلك دين الكتابة ؛ لأنّ الرّبا لا يجري بينهما في ذلك .
وعلّل الشّافعيّة عدم
الصّحّة : بأنّه ترك بعض المقدار ليحصل الحلول في الباقي ، والصّفة بانفرادها لا
تقابل بعوض ؛ ولأنّ صفة الحلول لا يصحّ إلحاقها بالمؤجّل ، وإذا لم يحصل ما ترك من
القدر لأجله لم يصحّ التّرك .
ووجه المنع عند
المالكيّة : أنّ من عجّل ما أجّل يعدّ مسلّفاً ، فقد أسلف الآن خمسمائة ليقتضي عند
الأجل ألفاً من نفسه .
وقد علّل الحنفيّة
المنع في غير دين الكتابة : بأنّ صاحب الدّين المؤجّل لا يستحقّ المعجّل ، فلا
يمكن أن يجعل استيفاءً ، فصار عوضاً ، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز .
وبيان ذلك : أنّ
المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ،
والتّعجيل خير من النّسيئة لا محالة ، فيكون خمسمائة بمقابلة خمسمائة مثله من
الدّين ، والتّعجيل في مقابلة الباقي ، وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو باطل ؛ ألا ترى
أنّ الشّرع حرّم ربا النّسيئة ، وليس فيه إلاّ مقابلة المال بالأجل شبهةً ، فلأن
تكون مقابلة المال بالأجل حقيقةً حرامًا أولى .
الثّاني : جواز ذلك -
وهو رواية عن الإمام أحمد ، حكاها ابن أبي موسى وغيره ، وهو قول ابن عبّاس
وإبراهيم النّخعيّ ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة وتلميذه ابن قيّم
الجوزيّة. قال ابن القيّم : لأنّ هذا عكس الرّبا ، فإنّ الرّبا يتضمّن الزّيادة في
أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمّن براءة ذمّته من بعض العوض في مقابلة
سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كلّ واحد منهما
، ولم يكن هنا رباً لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً ، فإنّ الرّبا الزّيادة ، وهي
منتفية هاهنا ، والّذين حرّموا ذلك إنّما قاسوه على الرّبا ، ولا يخفى الفرق الواضح
بين قوله : إمّا أن تربي ، وإمّا أن تقضي . وبين قوله : عجّل لي وأهب لك مائةً .
فأين أحدهما من الآخر ؛ فلا نصّ في تحريم ذلك ، ولا إجماع ، ولا قياس صحيح .
ولو صالح من ألف درهم
حالّ على ألف درهم مؤجّل ، فقد اختلف الفقهاء في صحّة ذلك على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة
والحنابلة : وهو أنّ التّأجيل لا يصحّ ، ويعتبر لاغياً ؛ إذ هو من الدّائن وعد
بإلحاق الأجل ، وصفة الحلول لا يصحّ إلحاقها ، والوعد لا يلزم الوفاء به .
والثّاني : للحنفيّة
: وهو صحّة التّأجيل ، وذلك ؛ لأنّه إسقاط لوصف الحلول فقط ، وهو حقّ له ، فيصحّ ،
ويكون من قبيل الإحسان . قالوا : لأنّ أمور المسلمين محمولة على الصّحّة ، فلو
حملنا ذلك على المعاوضة فيلزم بيع الدّراهم بالدّراهم نساءً ، وذلك لا يجوز ؛
لأنّه بيع الدّين بالدّين ؛ لأنّ الدّراهم الحالّة والدّراهم المؤجّلة ثابتة في
الذّمّة ، والدّين بالدّين لا يجوز ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الكالئ بالكالئ » ، فلمّا لم يكن حمله على المعاوضة حملناه على
التّأخير تصحيحاً للتّصرّف ؛ لأنّ ذلك جائز كونه تصرّفاً في حقّ نفسه، لا في حقّ
غيره .
ولو اصطلحا عن الدّين
الحالّ على وضع بعضه وتأجيل الباقي ، كما لو صالح الدّائن مدينه عن ألف حالّة على
خمسمائة مؤجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للحنفيّة
والمالكيّة وبعض الحنابلة . وهو صحّة الإسقاط والتّأجيل . وقد اختاره الشّيخ تقيّ
الدّين ابن تيميّة . قال ابن القيّم : وهو الصّواب ، بناءً على صحّة تأجيل القرض
والعاريّة .
والثّاني : للحنابلة
في الأصحّ والشّافعيّة : وهو أنّه يصحّ الإسقاط دون التّأجيل . وعلّة صحّة الوضع
والإسقاط : أنّه أسقط بعض حقّه عن طيب نفسه ، فلا مانع من صحّته ؛ لأنّه ليس في
مقابلة تأجيل ، فوجب أن يصحّ كما لو أسقطه كلّه ؛ إذ هو مسامحة وليس بمعاوضة . والثّالث
: لبعض الحنابلة : وهو أنّه لا يصحّ الإسقاط ولا التّأجيل ؛ بناءً على أنّ الصّلح
لا يصحّ مع الإقرار ، وعلى أنّ الحالّ لا يتأجّل .
عقد الصُلْح في
الشريعة الإسلامية
(
الجزء الثاني )
ثانياً : صلح
المعاوضة :
وهو الّذي يجري على
غير الدّين المدّعى ، بأن يقرّ له بدين في ذمّته ، ثمّ يتّفقان على تعويضه عنه .
وحكمه حكم بيع الدّين ، وإن كان بلفظ الصّلح . وهو عند الفقهاء على أربعة أضرب
:
الأوّل : أن يقرّ
بأحد النّقدين ، فيصالحه بالآخر ، نحو : أن يقرّ له بمائة درهم ، فيصالحه منها
بعشرة دنانير ، أو يقرّ له بعشرة دنانير ، فيصالحه منها على مائة درهم .
وقد نصّ الفقهاء على
أنّ له حكم الصّرف ؛ لأنّه بيع أحد النّقدين بالآخر ، ويشترط له ما يشترط في
الصّرف من الحلول والتّقابض قبل التّفرّق .
والثّاني : أن يقرّ
له بعرض ، كفرس وثوب ، فيصالحه عن العرض بنقد ، أو يعترف له بنقد، كدينار ،
فيصالحه عنه على عرض .
وقد نصّ الفقهاء على
أنّ له حكم البيع ؛ إذ هو مبادلة مال بمال ، وتثبت فيه أحكام البيع .
والثّالث : أن يقرّ له بدين في الذّمّة - من نحو بدل قرض أو قيمة متلف - فيصالح
على موصوف في الذّمّة من غير جنسه ، بأن صالحه عن دينار في ذمّته ، بإردبّ قمح ،
ونحوه في الذّمّة .
وقد نصّ الحنفيّة
والمالكيّة والحنابلة على صحّة هذا الصّلح ، غير أنّه لا يجوز التّفرّق فيه من
المجلس قبل القبض ؛ لأنّه إذا حصل التّفرّق قبل القبض كان كلّ واحد من العوضين
دينًا - لأنّ محلّه الذّمّة - فصار من بيع الدّين بالدّين ، وهو منهيّ عنه شرعاً .
وقال الشّافعيّة :
يشترط تعيين بدل الصّلح في المجلس ليخرج عن بيع الدّين بالدّين .
وفي اشتراط قبضه في
المجلس وجهان : أصحّهما : عدم الاشتراط إلاّ إذا كانا ربويّين . والرّابع : أن يقع
الصّلح عن نقد ، بأن كان على رجل عشرة دراهم ، فصالح من ذلك على منفعة : كسكنى دار
، أو ركوب دابّة مدّة معيّنة ، أو على أن يعمل له عملاً معلوماً .
وقد نصّ الحنفيّة
والشّافعيّة والحنابلة على أنّ لهذا الصّلح حكم الإجارة ،وتثبت فيه أحكامها.
القسم الثّاني :
الصّلح مع إنكار
المدّعى عليه :
وذلك كما إذا ادّعى شخص
على آخر شيئاً ، فأنكره المدّعى عليه ، ثمّ صالح عنه . وقد اختلف الفقهاء في جوازه
على قولين :
أحدهما لجمهور
الفقهاء - من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - : وهو جواز الصّلح على الإنكار .
بشرط أن يكون المدّعي معتقداً أنّ ما ادّعاه حقّ ، والمدّعى عليه يعتقد أن لا حقّ
عليه . فيتصالحان قطعاً للخصومة والنّزاع . أمّا إذا كان أحدهما عالماً بكذب نفسه
، فالصّلح باطل في حقّه ، وما أخذه العالم بكذب نفسه حرام عليه ؛ لأنّه من أكل
المال بالباطل . واستدلّوا على ذلك :
أ - بظاهر قوله تعالى
: { وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ } . حيث وصف المولى عزّ وجلّ جنس الصّلح بالخيريّة . معلوم أنّ
الباطل لا يوصف بالخيريّة ، فكان كلّ صلح مشروعاً بظاهر هذا النّصّ إلاّ ما خصّ
بدليل .
ب - بعموم قوله صلى
الله عليه وسلم : « الصّلح جائز بين
المسلمين » .
فيدخل ذلك في عمومه .
ج - وبأنّ الصّلح
إنّما شرع للحاجة إلى قطع الخصومة والمنازعة ، والحاجة إلى قطعها في التّحقيق عند
الإنكار - إذ الإقرار مسالمة ومساعدة - فكان أولى بالجواز .
قال ابن قدامة :
وكذلك إذا حلّ مع اعتراف الغريم ، فلأن يحلّ مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقّه
إلاّ بذلك أولى .
د - ولأنّه صالح بعد
دعوى صحيحة ، فيقضى بجوازه ؛ لأنّ المدّعي يأخذ عوضاً عن حقّه الثّابت له في
اعتقاده ، وهذا مشروع ، والمدّعى عليه يؤدّيه دفعاً للشّرّ وقطعاً للخصومة عنه ،
وهذا مشروع أيضاً ، إذ المال وقاية الأنفس ، ولم يرد الشّرع بتحريم ذلك في موضع.
هـ - ولأنّ افتداء
اليمين جائز ؛ لما روي عن عثمان وابن مسعود : أنّهما بذلا مالاً في دفع اليمين
عنهما . فاليمين الثّابتة للمدّعي حقّ ثابت لسقوطه تأثير في إسقاط المال ، فجاز أن
يؤخذ عنه المال على وجه الصّلح ، أصله القود في دم العمد .
والثّاني للشّافعيّة
وابن أبي ليلى : وهو أنّ الصّلح على الإنكار باطل .
واستدلّوا على ذلك :
أ - بالقياس على ما
لو أنكر الزّوج الخلع ، ثمّ تصالح مع زوجته على شيء، فلا يصحّ ذلك.
ب - وبأنّ المدّعي إن
كان كاذباً فقد استحلّ مال المدّعى عليه ، وهو حرام ، وإن كان صادقًا فقد حرّم على
نفسه ماله الحلال ؛ لأنّه يستحقّ جميع ما يدّعيه ، فدخل في قوله صلى الله عليه
وسلم : « إلاّ صلحاً أحلّ
حراماً أو حرّم حلالاً » .
ج - وبأنّ المدّعي
اعتاض عمّا لا يملكه ، فصار كمن باع مال غيره ، والمدّعى عليه عاوض على ملكه ،
فصار كمن ابتاع مال نفسه من وكيله . فالصّلح على الإنكار يستلزم أن يملك المدّعي
ما لا يملك ، وأن يملك المدّعى عليه ما يملك ، وذلك إن كان المدّعي كاذباً . فإن
كان صادقاً انعكس الحال .
د - ولأنّه عقد
معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه ، فبطل كالصّلح على حدّ القذف .
التّكييف الفقهيّ
للصّلح على الإنكار :
قال ابن رشد في
" بداية المجتهد " : وأمّا الصّلح على الإنكار ، فالمشهور فيه عن مالك
وأصحابه : أنّه يراعى فيه من الصّحّة ما يراعى في البيوع . ثمّ قال : فالصّلح
الّذي يقع فيه ما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام : صلح يفسخ
باتّفاق ، وصلح يفسخ باختلاف ، وصلح لا يفسخ باتّفاق إن طال ، وإن لم يطل ففيه
اختلاف .
وفرّق الحنفيّة
والحنابلة بين تكييفه في حقّ المدّعي وبينه في حقّ المدّعى عليه وقالوا : يكون
الصّلح على مال المصالح به معاوضةً في حقّ المدّعي ؛ لأنّه يعتقده عوضاً عن حقّه ;
فيلزمه حكم اعتقاده ، وعلى ذلك : فإن كان ما أخذه المدّعي عوضاً عن دعواه
شقصاً مشفوعاً ، فإنّها تثبت فيه الشّفعة لشريك المدّعى عليه ؛ لأنّه أخذه عوضاً ،
كما لو اشتراه . - ويكون الصّلح على الإنكار في حقّ المدّعى عليه خلاصاً من اليمين
وقطعاً للمنازعة ؛ لأنّ المدّعي في زعم المدّعى عليه المنكر غير محقّ ومبطل في
دعواه ، وأنّ إعطاءه العوض له ليس بمعاوضة بل للخلاص من اليمين ، إذ لو لم يصالحه
ويعط العوض لبقي النّزاع ولزمه اليمين . وقد عبّر الحنابلة عن هذا المعنى بقولهم :
يكون صلح الإنكار إبراءً في حقّ المنكر؛ لأنّه دفع إليه المال افتداءً ليمينه
ودفعاً للضّرر عنه لا عوضاً عن حقّ يعتقده عليه .
وبناءً على ذلك : لو
كان ما صالح به المنكر شقصاً لم تثبت فيه الشّفعة ؛ لأنّ المدّعي يعتقد أنّه أخذ
ماله أو بعضه مسترجعاً له ممّن هو عنده ، فلم يكن معاوضةً ، بل هو كاسترجاع العين
المغصوبة .
القسم الثّالث :
الصّلح مع سكوت
المدّعى عليه :
وذلك كما إذا ادّعى
شخص على آخر شيئاً ، فسكت المدّعى عليه دون أن يقرّ أو ينكر، ثمّ صالح عنه .
وقد اعتبر الفقهاء -
ما عدا ابن أبي ليلى - هذا الصّلح في حكم الصّلح عن الإنكار ؛ لأنّ السّاكت منكر
حكماً . صحيح أنّ السّكوت يمكن أن يحمل على الإقرار ، وعلى الإنكار ، إلاّ أنّه
نظراً لكون الأصل براءة الذّمّة وفراغها ، فقد ترجّحت جهة الإنكار .
ومن هنا كان اختلافهم
في جوازه تبعاً لاختلافهم في جواز الصّلح عن الإنكار .
وعلى هذا ، فللفقهاء
في الصّلح عن السّكوت قولان :
أحدهما : للحنفيّة
والمالكيّة والحنابلة : وهو جواز الصّلح على السّكوت ، وحجّتهم نفس الأدلّة الّتي
ساقوها على جوازه عن الإنكار .
وقد اشترطوا فيه نفس
الشّروط ورتّبوا ذات الأحكام الّتي اعتبروها في حالة الإنكار .
هذا وقد وافقهم على
جوازه ابن أبي ليلى - مع إبطاله الصّلح عن الإنكار - حيث اعتبره في حكم الصّلح على
الإقرار .
والثّاني :
للشّافعيّة : وهو عدم جواز الصّلح على السّكوت ، وأنّه باطل وذلك لأنّ جواز الصّلح
يستدعي حقّاً ثابتاً ، ولم يوجد في موضع السّكوت ؛ إذ السّاكت يعدّ منكراً حكماً
حتّى تسمع عليه البيّنة ، فكان إنكاره معارضاً لدعوى المدّعي . ولو بذل المال
لبذله لدفع خصومة باطلة ، فكان في معنى الرّشوة .
الصّلح بين المدّعي
والأجنبيّ :
اختلف الفقهاء في
الأحكام المتعلّقة بالصّلح الكائن بين المدّعي والأجنبيّ على النّحو التّالي :
أوّلاً : مذهب
الحنفيّة :
نصّ الحنفيّة على أنّ
الصّلح إذا كان بين المدّعي والأجنبيّ ، فلا يخلو : إمّا أن يكون بإذن المدّعى
عليه أو بغير إذنه .
أ - فإن كان بإذنه ،
فإنّه يصحّ الصّلح ، ويكون الأجنبيّ وكيلاً عن المدّعى عليه في الصّلح ، ويجب
المال المصالح به على المدّعى عليه دون الوكيل ، سواء أكان الصّلح عن إقرار أم
إنكار ؛ لأنّ الوكيل في الصّلح لا ترجع إليه حقوق العقد . وهذا إذا لم يضمن
الأجنبيّ بدل الصّلح عن المدّعى عليه ، فأمّا إذا ضمن ، فإنّه يجب عليه بحكم
الكفالة والضّمان لا بحكم العقد .
ب - وأمّا إذا كان
بغير إذنه ، فهذا صلح الفضوليّ ، وله وجهان :
أحدهما : أن يضيف
الفضوليّ الصّلح إلى نفسه ، كأن يقول للمدّعي : صالحني عن دعواك مع فلان بألف درهم
فيصالحه ذلك الشّخص . فهذا الصّلح صحيح ، ويلزم بدل الصّلح الفضوليّ ، ولو لم يضمن
أو يضف الصّلح إلى ماله أو ذمّته ؛ لأنّ إضافة الفضوليّ الصّلح إلى نفسه تنفذ
في حقّه ، ويكون قد التزم بدل الصّلح مقابل إسقاط اليمين عن المدّعى
عليه، وليس للفضوليّ الرّجوع على المدّعى عليه ببدل الصّلح الّذي أدّاه ، طالما
أنّ الصّلح لم يكن بأمر المدّعى عليه . قال السّمرقنديّ في ( التّحفة ) : وإنّما
كان هكذا ، لأنّ التّبرّع بإسقاط الدّين، بأن يقضي دين غيره بغير إذنه صحيح ،
والتّبرّع بإسقاط الخصومة عن غيره صحيح، والصّلح عن إقرار إسقاط للدّين ، والصّلح
عن إنكار إسقاط للخصومة ، فيجوز كيفما كان . والثّاني : أن يضيف الفضوليّ الصّلح
إلى المدّعى عليه ، بأن يقول للمدّعي : تصالح مع فلان عن دعواك . ولهذا الوجه خمس
صور : في أربع منها يكون الصّلح لازماً ، وفي الخامسة منها يكون موقوفاً .
ووجه الحصر في هذا
الوجه : أنّ الفضوليّ إمّا أن يضمن بدل الصّلح أو لا يضمن ، وإذا لم يضمن ، فإمّا
أن يضيف الصّلح إلى ماله أو لا يضيفه . وإذا لم يضفه ، فإمّا أن يشير إلى نقد أو
عرض أو لا يشير . وإذا لم يشر ، فإمّا أن يسلّم العوض أو لا يسلّم .
فالصّور خمس هي :
الصّورة الأولى : أن
يضمن الفضوليّ بدل الصّلح ، كما إذا قال الفضوليّ للمدّعي : صالح فلاناً عن دعواك
معه بألف درهم ، وأنا ضامن لك ذلك المبلغ وقبل المدّعي تمّ الصّلح وصحّ؛ لأنّه في
هذه الصّورة لم يحصل للمدّعى عليه سوى البراءة ، فكما أنّ للمدّعى عليه أن يحصل
على براءته بنفسه ، فللأجنبيّ - أيضاً - أن يحصل على براءة المدّعى عليه .
وفي هذه الصّورة ،
وإن لم يلزم الفضوليّ بدل الصّلح بسبب عقده الصّلح - من حيث كونه سفيراً - إلاّ
أنّه يلزمه أداؤه بسبب ضمانه .
الصّورة الثّانية : أن
لا يضمن الفضوليّ بدل الصّلح إلاّ أنّه يضيفه إلى ماله ، كأن يقول الفضوليّ : قد
صالحت على مالي الفلانيّ ، أو على فرسي هذه ، أو على دراهمي هذه الألف فيصحّ
الصّلح ؛ لأنّ المصالح الفضوليّ بإضافة الصّلح إلى ماله يكون قد التزم تسليمه ،
ولمّا كان مقتدراً على تسليم البدل صحّ الصّلح ولزم الفضوليّ تسليم البدل .
الصّورة الثّالثة : أن
يشير إلى العروض أو النّقود الموجودة بقوله : عليّ هذا المبلغ ، أو هذه السّاعة
فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ بدل الصّلح المشار إليه قد تعيّن تسليمه على أن يكون من ماله
وبذلك تمّ الصّلح .
والفرق بين الصّورة
الثّانية والثّالثة : هو أنّ الفضوليّ في الثّانية قد أضاف الصّلح إلى ماله الّذي
نسبه إلى نفسه ، أمّا في الثّالثة فبدل الصّلح مع كونه ماله إلاّ أنّه لم ينسبه
إلى نفسه عند العقد .
الصّورة الرّابعة : إذا
أطلق بقوله : صالحت على كذا ، ولم يكن ضامناً ولا مضيفاً إلى ماله ولا مشيراً إلى
شيء ، وسلّم المبلغ فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ تسليم بدل الصّلح يوجب بقاء البدل المذكور
سالماً للمدّعي ، ويستلزم حصول المقصود بتمام العقد ، فصار فوق الضّمان والإضافة
إلى نفسه .
وعلى ذلك : إذا حصل
للمدّعي عوض في هذه الصّور وتمّ رضاؤه به برئ المدّعى عليه ، ولا شيء للفضوليّ
المصالح من المصالح عنه .
ويستفاد من حصر لزوم
التّسليم في الصّورة الرّابعة أنّ تسليم بدل الصّلح في الصّورتين الثّانية
والثّالثة ليس شرطاً لصحّة الصّلح ، فيصحّ فيهما ولو لم يحصل التّسليم ، ويجبر
الفضوليّ على التّسليم .
هذا وحيث صحّ الصّلح
في هذه الصّور الأربع ، فإنّ الفضوليّ المصالح يكون متبرّعاً بالبدل ; لأنّه أجرى
هذا العقد بلا أمر المدّعى عليه .
الصّورة الخامسة : أن
يطلق الفضوليّ بقوله للمدّعي : أصالحك عن دعواك هذه مع فلان على ألف درهم ، ولا
يكون ضامناً ، ولا مضيفاً إلى ماله ولا مشيراً إلى شيء ، ثمّ لا يسلّم بدل الصّلح
، فصلحه هذا موقوف على إجازة المدّعى عليه ؛ لأنّ المصالح هاهنا - وهو الفضوليّ -
لا ولاية له على المطلوب المدّعى عليه ، فلا ينفذ تصرّفه عليه ، فيتوقّف على
إجازته .
وعلى ذلك : فإن أجاز
المدّعى عليه صلحه صحّ ؛ لأنّ إجازته اللّاحقة بمنزلة ابتداء التّوكيل ، ويلزم بدل
الصّلح المدّعى عليه دون المصالح ؛ لأنّه التزم هذا البدل باختياره ، ويخرج
الأجنبيّ الفضوليّ من بينهما ، ولا يلزمه شيء . وإن لم يجز المدّعى عليه الصّلح
فإنّه يبطل؛ لأنّه لا يجب المال عليه والمدّعى به لا يسقط .
ولا فرق في هذه
الصّورة بين أن يكون المدّعى عليه مقرّاً أو منكراً ، وبين أن يكون بدل الصّلح
عيناً أو ديناً ؛ لأنّ المصالح الفضوليّ لم يضف بدل الصّلح لنفسه أو ماله ، كما
أنّه لم يضمنه ؛ فلا يلزمه البدل المذكور .
ثانياً : مذهب
المالكيّة :
ذهب المالكيّة إلى
أنّه يجوز للرّجل أن يصالح عن غيره بوكالة أو بغير وكالة ، وذلك مثل أن يصالح رجل
على دين له على رجل ، ويلزم المصالح ما صالح به .
جاء في "
المدوّنة " في باب الصّلح : ومن قال لرجل : هلمّ أصالحك من دينك الّذي على
فلان بكذا ، ففعل ، أو أتى رجل رجلاً فصالحه عن امرأته بشيء مسمّىً لزم الزّوج
الصّلح ، ولزم المصالح ما صالح به وإن لم يقل : أنا ضامن ؛ لأنّه إنّما قضى عن
الّذي عليه الحقّ ممّا يحقّ عليه .
ثالثاً : مذهب
الشّافعيّة :
ذهب الشّافعيّة إلى
أنّ للصّلح الجاري بين المدّعي والأجنبيّ حالتين :
الأولى : مع إقرار
المدّعى عليه :
وفي هذه الحال فرّقوا
بين ما إذا كان المدّعى عيناً أو ديناً .
أ - فإن كان المدّعى
عيناً ، وقال الأجنبيّ للمدّعي : إنّ المدّعى عليه وكّلني في مصالحتك له عن بعض
العين المدّعاة ، أو عن كلّها بعين من مال المدّعى عليه ، أو بعشرة في ذمّته ،
فتصالحا عليه ، صحّ الصّلح ؛ لأنّ دعوى الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة .
ثمّ ينظر : فإن كان
الأجنبيّ صادقاً في الوكالة ، صار المصالح عنه ملكاً للمدّعى عليه . وإلاّ كان
فضوليّاً ولم يصحّ صلحه ، لعدم الإذن فيه ، كشراء الفضوليّ .
ولو صالحه الوكيل على
عين مملوكة للوكيل ، أو على دين في ذمّته صحّ العقد ، ويكون كشرائه لغيره بإذنه
بمال نفسه ، ويقع للآذن ، فيرجع المأذون عليه بالمثل إن كان مثليّاً ، وبالقيمة إن
كان قيميّاً ؛ لأنّ المدفوع قرض لا هبة .
أمّا لو صالح عن
العين المدّعاة لنفسه بعين من ماله أو بدين في ذمّته فيصحّ الصّلح للأجنبيّ،
وكأنّه اشتراه بلفظ الشّراء ، ولو لم يجر مع الأجنبيّ خصومه ؛ لأنّ الصّلح ترتّب
على دعوى وجواب .
ب - وإن كان المدّعى
ديناً ، فينظر : فإن صالحه عن المدّعى عليه ، كما لو قال الأجنبيّ للمدّعي :
صالحني على الألف الّذي لك على فلان بخمسمائة صحّ الصّلح ؛ لأنّه إن كان قد وكّله
المدّعى عليه بذلك فقد قضى دينه بإذنه ، وإن لم يوكّله فقد قضى دينه بغير إذنه
وذلك جائز . ومثل ذلك ما لو قال له الأجنبيّ : وكّلني المدّعى عليه بمصالحتك على
نصفه ، أو على ثوبه هذا ، فصالحه فإنّه يصحّ ، وإن صالحه عن نفسه فقال : صالحني عن
هذا الدّين ليكون لي في ذمّة المدّعى عليه ففيه وجهان - بناءً على الوجهين في بيع
الدّين مَن غير من عليه - .
أحدهما : لا يصحّ ؛
لأنّه لا يقدر على تسليم ما في ذمّة المدّعى عليه .
والثّاني : يصحّ كما
لو اشترى وديعةً في يد غيره .
والثّانية : مع إنكار
المدّعى عليه :
وفي هذه الحال -
أيضاً - فرّقوا بين ما إذا كان المدّعى عيناً أو ديناً .
أ - فإن كان عيناً ،
وصالحه الأجنبيّ عن المنكر ظاهراً بقوله : أقرّ المدّعى عليه عندي ووكّلني في
مصالحتك له ، إلاّ أنّه لا يظهر إقراره لئلاّ تنتزعه منه ، فصالحه صحّ ذلك ؛ لأنّ
دعوى الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة . قال الشّيرازيّ : لأنّ الاعتبار
بالمتعاقدين ، وقد اتّفقا على ما يجوز العقد عليه فجاز ، ثمّ ينظر فيه : فإن كان
قد أذن له في الصّلح ملك المدّعى عليه العين ؛ لأنّه ابتاعه له وكيله ، وإن لم يكن
أذن له في الصّلح لم يملك المدّعى عليه العين ؛ لأنّه ابتاع له عيناً بغير إذنه ،
فلم يملكه .
ولو قال الأجنبيّ
للمدّعي : هو منكر ، غير أنّه مبطل ، فصالحني له على داري هذه لتنقطع الخصومة
بينكما فلا يصحّ على الأصحّ ؛ لأنّه صلح إنكار .
وإن صالح لنفسه فقال
: هو مبطل في إنكاره ؛ لأنّك صادق عندي ، فصالحني لنفسي بداري هذه أو بعشرة في
ذمّتي فهو كشراء المغصوب ، فيفرّق بين ما إذا كان قادراً على انتزاعه فيصحّ ، وبين
ما إذا كان عاجزًا عن انتزاعه فلا يصحّ .
ب - وإن كان المدّعى
ديناً : وقال الأجنبيّ : أنكر الخصم وهو مبطل ، فصالحني له بدابّتي هذه لتنقطع
الخصومة بينكما ، فقبل صحّ الصّلح ، إذ لا يتعذّر قضاء دين الغير بدون إذنه ،
بخلاف تمليك الغير عين ماله بغير إذنه فإنّه لا يمكن .
وإن صالحه عن الدّين
لنفسه فقال : هو منكر ، ولكنّه مبطل ، فصالحني لنفسي بدابّتي هذه أو بعشرة في
ذمّتي لآخذه منه فلا يصحّ ؛ لأنّه ابتياع دين في ذمّة غيره .
رابعاً : مذهب
الحنابلة :
تكلّم الحنابلة عن
صلح الأجنبيّ مع المدّعي في حالة الإنكار فقط ، ولم يتعرّضوا لصلحه في حالة
الإقرار ، وقالوا :
أ - إنّ صلح الأجنبيّ
عن المنكر ، إمّا أن يكون عن عين أو دين :
فإن صالح عن منكر
لعين بإذنه ، أو بدون إذنه صحّ الصّلح ، سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي بصحّة دعواه
على المنكر ، أو لم يعترف له بصحّتها ، ولو لم يذكر الأجنبيّ أنّ المنكر وكّله في
الصّلح عنه ؛ لأنّه افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدّعوى ، ولا يرجع
الأجنبيّ بشيء ممّا صالح به على المنكر إن دفع بدون إذنه ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا
يلزمه فكان متبرّعاً، كما لو تصدّق عنه . أمّا إذا صالح عنه بإذنه فهو وكيله ،
والتّوكيل في ذلك جائز ويرجع عليه بما دفع عنه بإذنه إن نوى الرّجوع عليه بما دفع
عنه .
وإن صالح عن منكر
لدين بإذنه أو بدون إذنه ، صحّ الصّلح ، سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي لصحّة دعواه
على المطلوب ، أو لم يعترف ؛ لأنّ قضاء الدّين عن غيره جائز بإذنه وبغير إذنه ،
فإنّ « عليّاً وأبا قتادة
- رضي الله عنهما - قضيا الدّين عن الميّت ، وأقرّهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم
» ، ولو لم يقل
الأجنبيّ إنّ المنكر وكّله في الصّلح عنه ؛ لأنّه افتداء للمنكر من الخصومة ،
وإبراء له من الدّعوى ، ولا يرجع الأجنبيّ على المنكر بشيء ممّا صالح به إن دفع
بدون إذنه ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا يلزمه فكان متبرّعاً ، كما لو تصدّق عنه . فإن
أذن المنكر للأجنبيّ في الصّلح ، أو الأداء عنه رجع عليه بما ادّعى عنه إن نوى
الرّجوع بما دفع عنه .
ب - وإن صالح
الأجنبيّ المدّعي لنفسه ، لتكون المطالبة له فلا يخلو : إمّا أن يعترف للمدّعي
بصحّة دعواه ، أو لا يعترف له :
فإن لم يعترف له كان
الصّلح باطلاً ؛ لأنّه اشترى من المدّعي ما لم يثبت له ، ولم تتوجّه إليه خصومة
يفتدي منها ، أشبه ما لو اشترى منه ملك غيره .
وإن اعترف له بصحّة
دعواه وصالح المدّعي ، والمدّعى به دين لم يصحّ ؛ لأنّه اشترى ما لا يقدر البائع
على تسليمه ؛ ولأنّه بيع للدّين من غير من هو في ذمّته . وإذا كان بيع الدّين
المقرّ به من غير من هو في ذمّته لا يصحّ ؛ فبيع دين في ذمّة منكر معجوز عن قبضه
منه أولى .
وإن كان المدّعى به
عيناً ، وعلم الأجنبيّ عجزه عن استنقاذها من مدّعىً عليه لم يصحّ الصّلح ؛ لأنّه
اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه كشراء الشّارد . وإن ظنّ الأجنبيّ القدرة على
استنقاذها صحّ ؛ لأنّه اشترى من مالك ملكه القادر على أخذه منه في اعتقاده ، أو
ظنّ عدم المقدرة ثمّ تبيّنت قدرته على استنقاذها صحّ الصّلح ؛ لأنّ البيع تناول ما
يمكن تسليمه فلم يؤثّر ظنّ عدمه .
ثمّ إن عجز الأجنبيّ
بعد الصّلح ظانّاً القدرة على استنقاذها خُيّر الأجنبيّ بين فسخ الصّلح - ولأنّه
لم يسلّم له المعقود عليه ؛ فكان له الرّجوع إلى بدله - وبين إمضاء الصّلح ؛ لأنّ
الحقّ له كخيار العيب . وإن قدر على انتزاعه استقرّ الصّلح .
ج - وإن قال الأجنبيّ
للمدّعي : أنا وكيل المدّعى عليه في مصالحتك عن العين ، وهو مقرّ لك بها في الباطن
، وإنّما يجحدك في الظّاهر فظاهر كلام الخرقيّ : لا يصحّ الصّلح ؛ لأنّه يجحدها في
الظّاهر لينتقص المدّعي بعض حقّه ، أو يشتريه بأقلّ من ثمنه ؛ فهو هاضم للحقّ
يتوصّل إلى أخذ المصالح عنه بالظّلم والعدوان ، فهو بمنزلة ما لو شافهه بذلك فقال
: أنا أعلم صحّة دعواك ، وأنّ هذا لك ، ولكن لا أسلّمه إليك ولا أقرّ لك به عند
الحاكم حتّى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه ، وهو غير جائز . وقال القاضي : يصحّ
. ثمّ ينظر إلى المدّعى عليه : فإن صدّقه على ذلك ملك العين ، ولزمه ما أدّى عنه
ورجع الأجنبيّ عليه بما أدّى عنه إن كان أذن له في الدّفع . وإن أنكر المدّعى عليه
الإذن في الدّفع فالقول قوله بيمينه ، ويكون حكمه كمن أدّى عن غيره ديناً بلا إذنه
. وإن أنكر الوكالة فالقول قوله بيمينه ، ولا رجوع للأجنبيّ عليه ولا يحكم له
بملكها ؛ ثمّ إن كان الأجنبيّ قد وكّل في الشّراء، فقد ملكها المدّعى
عليه باطناً ؛ لأنّه اشتراها بإذنه فلا يقدح إنكاره في ملكها ؛ لأنّ ملكه ثبت قبل
إنكاره ، وإنّما هو ظالم بالإنكار للأجنبيّ ، وإن لم يوكّله لم يملكها ؛ لأنّه
اشترى له عيناً بغير إذنه .
ولو قال الأجنبيّ
للمدّعي : قد عرف المدّعى عليه صحّة دعواك ، ويسألك الصّلح عنه ، وكّلني فيه
فصالحه صحّ ؛ لأنّه هاهنا لم يمتنع من أدائه ، بل اعترف به وصالحه عليه مع بذله
فأشبه ما لو لم يجحده .
أركان الصّلح :
ذهب الحنفيّة إلى أنّ
للصّلح ركناً واحداً : وهو الصّيغة المؤلّفة من الإيجاب والقبول الدّالّة على
التّراضي . وخالفهم في ذلك جمهور الفقهاء - من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة -
حيث عدّوا أركان الصّلح ثلاثةً :
أ - الصّيغة .
ب - والعاقدان .
ج - والمحلّ . "
وهو المصالح به والمصالح عنه " .
عقد الصُلْح في
الشريعة الإسلامية
(
الجزء الثالث )
شروط الصّلح :
للصّلح شروط يلزم
تحقّقها لوجوده ، هي خارجة عن ماهيّته ، منها ما يرجع إلى الصّيغة ، ومنها ما يرجع
إلى العاقدين ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عنه ، وهو الشّيء المتنازع فيه ، ومنها
ما يرجع إلى المصالح عليه ، وهو بدل الصّلح .
وبيان ذلك فيما يأتي
:
الشّروط المتعلّقة
بالصّيغة :
المراد بالصّيغة :
الإيجاب والقبول الدّالّين على التّراضي . مثل أن يقول المدّعى عليه: صالحتك من
كذا على كذا ، أو من دعواك كذا على كذا ، ويقول الآخر : قبلت ، أو رضيت أو ما يدلّ
على قبوله ورضاه . فإذا وجد الإيجاب والقبول فقد تمّ الصّلح .
هذا ، ولم يتعرّض
فقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في باب الصّلح لبيان الشّروط المتعلّقة
بصيغته ؛ نظراً لاعتبارهم عقد الصّلح غير قائم بذاته ، بل تابعاً لأقرب العقود به
في الشّرائط والأحكام ، بحيث يعدّ بيعاً إذا كان مبادلة مال بمال ، وهبةً إذا كان
على بعض العين المدّعاة، وإبراءً إذا كان على بعض الدّين المدّعى ، اكتفاءً منهم
بذكر ما يتعلّق بالصّيغة من شروط وأحكام في تلك العقود الّتي يلحق بها
الصّلح ، بحسب محلّه وما تصالحا عليه .
أمّا الحنفيّة : فقد
تكلّموا على صيغة الصّلح بصورة مستقلّة في بابه ، وأتوا على ذكر بعض شروطها
وأحكامها ، وسكتوا عن البعض الآخر ، اكتفاءً بما أوردوه من تفصيلات تتعلّق
بالصّيغة في أبواب البيع والإجارة والهبة والإبراء ، الّتي يأخذ الصّلح أحكامها
بحسب أحواله وصوره .
أمّا كلامهم في باب
الصّلح عن صيغته وشروطها : فهو أنّه يشترط في الصّلح حصول الإيجاب من المدّعي على
كلّ حال ، سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أم لم يكن ، ولذلك لا يصحّ
الصّلح بدون إيجاب مطلقاً . أمّا القبول ، فيشترط في كلّ صلح يتضمّن المبادلة بعد
الإيجاب .
ثمّ قالوا : تستعمل
صيغة الماضي في الإيجاب والقبول ، ولا ينعقد الصّلح بصيغة الأمر ، وعلى ذلك لو قال
المدّعي للمدّعى عليه : صالحني على الدّار الّتي تدّعيها بخمسمائة درهم ، فلا
ينعقد الصّلح بقول المدّعى عليه : صالحت ؛ لأنّ طرف الإيجاب كان عبارةً عن طلب
الصّلح ، وهو غير صالح للإيجاب ، فقول الطّرف الآخر : قبلت ، لا يقوم مقام الإيجاب
.
أمّا إذا قال المدّعي
ثانياً : قبلت . ففي تلك الحالة ينعقد الصّلح .
وبناءً على ما تقدّم
:
إذا كان المدّعى به
ممّا يتعيّن بالتّعيين : كالعقارات ، والأراضي ، وعروض التّجارة ، ونحوها فيشترط
القبول بعد الإيجاب لصحّة الصّلح ؛ لأنّ الصّلح في هذه الحالة لا يكون إسقاطاً
حتّى يتمّ بإرادة المسقط وحدها ، وسبب عدم كونه إسقاطاً مبنيّ على عدم جريان
الإسقاط في الأعيان .
وإذا كان الصّلح
واقعاً على جنس آخر ، فيشترط القبول - أيضاً - سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن
بالتّعيين أو كان ممّا لا يتعيّن بالتّعيين : كالنّقدين ، وما في حكمهما .
وسبب اشتراط القبول
في هاتين المسألتين : أنّ الصّلح فيهما مبادلة ، وفي المبادلة يجب القبول ، ولا
يصحّ العقد بدونه .
أمّا الصّلح الّذي
ينعقد بالإيجاب وحده ، فهو الّذي يتضمّن إسقاط بعض الحقوق ، فيكتفى فيه بالإيجاب ،
ولا يشترط القبول .
وعلى ذلك : فإذا وقع
الصّلح على بعض الدّين الثّابت في الذّمّة ، بمعنى أن يكون كلّ من المصالح عنه
والمصالح به من النّقدين ، وهما لا يتعيّنان بالتّعيين ، فهاهنا ينعقد
الصّلح بمجرّد إيجاب الدّائن ، ولا يشترط قبول المدين ؛ لأنّ هذا الصّلح
عبارة عن إسقاط بعض الحقّ ، والإسقاط لا يتوقّف على القبول ، بل يتمّ بمجرّد إيجاب
المسقط .
فمثلاً : لو قال
الدّائن للمدين : صالحتك على ما في ذمّتك لي من الخمسمائة دينار على مائتي دينار
فينعقد الصّلح بمجرّد الإيجاب ، ولا يشترط قبول المدين ، ويلزم الصّلح ما لم يردّه
الدّين . إلاّ أنّه يشترط في ذلك أن يكون الموجب المدّعي ؛ لأنّه لو كان المدّعى
عليه هو الموجب ، فيشترط قبول المدّعي ؛ سواء أكان الصّلح عمّا يتعيّن بالتّعيين ،
أم عمّا لا يتعيّن بالتّعيين ، وذلك لأنّ هذا الصّلح إمّا أن يكون إسقاطاً ، فيجب
أن يكون المسقط المدّعي أو الدّائن ، إذ لا يمكن سقوط حقّه بدون قبوله ورضاه ،
وإمّا أن يكون معاوضةً ، وفي المعاوضة يشترط وجود الإيجاب والقبول معاً . أمّا في
الصّلح عمّا لا يتعيّن بالتّعيين الّذي يقع على عين الجنس ، فيقوم طلب المدّعى
عليه الصّلح مقام القبول .
الصّلح بالتّعاطي :
ذهب الحنفيّة إلى
انعقاد الصّلح بالتّعاطي إذا كانت قرائن الحال دالّةً على تراضيهما به، كما لو
أعطى المدّعى عليه مالاً للمدّعي لا يحقّ له أخذه وقبض المدّعي ذلك المال . وبيان
ذلك : أنّه لو ادّعى شخص على آخر بألف درهم ، وأنكر المدّعى عليه الدّين ، وأعطى
المدّعي شاةً وقبضها المدّعي منه فإنّه ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وليس للمدّعي بعد
ذلك الادّعاء بالألف درهم ، كما أنّه ليس للمدّعى عليه استرداد تلك الشّاة .
أمّا إذا أعطى
المدّعى عليه للمدّعي بعض المال الّذي كان للمدّعي حقّ أخذه وقبضه المدّعي، ولم
يجر بينهما كلام يدلّ على الصّلح فلا ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وللمدّعي طلب باقي
الدّين؛ لأنّ أخذ المدّعي بعضاً من المال الّذي له حقّ أخذه ، يحتمل أنّه قصد به
استيفاء بعض حقّه على أن يأخذ البعض الباقي بعد ذلك ، كما أنّه يحتمل أنّه اكتفى
بالمقدار الّذي أخذه وعدل عن المطالبة بالباقي ، والحقّ لا يسقط بالشّكّ .
الشّروط المتعلّقة
بالعاقدين :
وهي على ثلاثة أقسام
: منها ما يرجع إلى الأهليّة ، ومنها ما يرجع إلى الولاية ، ومنها ما
يرجع للتّراضي .
الشّروط المتعلّقة
بالمصالح عنه :
المصالح عنه : هو
الشّيء المتنازع فيه ، وهو نوعان : حقّ اللّه ، وحقّ العبد .
أمّا حقّ اللّه : فلا
خلاف بين الفقهاء في عدم صحّة الصّلح عنه . وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح عن حدّ
الزّنا والسّرقة وشرب الخمر ، بأن صالح زانياً أو سارقاً من غيره أو شارب خمر على
مال على أن لا يرفعه إلى وليّ الأمر ؛ لأنّه حقّ اللّه تعالى فلا يجوز ، ويقع
باطلاً ؛ لأنّ المصالح بالصّلح متصرّف في حقّ نفسه ، إمّا باستيفاء كلّ حقّه ، أو
باستيفاء البعض وإسقاط الباقي ، أو بالمعاوضة ، وكلّ ذلك لا يجوز في غير حقّه .
وكذا إذا صالح من حدّ
القذف ، بأن قذف رجلاً ، فصالحه على مال على أن يعفو عنه ؛ لأنّه وإن كان للعبد
فيه حقّ ، فالمغلّب فيه حقّ اللّه تعالى ، والمغلوب ملحق بالعدم شرعاً ، فكان في
حكم الحقوق المتمحّضة حقّاً للّه عزّ وجلّ ، وهي لا تحتمل الصّلح ، فكذلك ما كان
في حكمها .
وكذلك لو صالح شاهداً
يريد أن يشهد عليه على مال ليكتم شهادته فهو باطل ؛ لأنّ الشّاهد في إقامة
الشّهادة محتسب حقّاً للّه عزّ وجلّ لقوله سبحانه : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } والصّلح عن حقوق اللّه باطل .
وإذا بطل الصّلح في
حقوق اللّه تعالى وجب عليه ردّ ما أخذ ؛ لأنّه أخذه بغير حقّ ، ولا يحلّ لأحد أخذ
مال أحد إلاّ بسبب شرعيّ .
وأمّا حقّ العبد :
فهو الّذي يصحّ الصّلح عنه عند تحقّق شروطه الشّرعيّة ، وشروطه عند الفقهاء ثلاثة
:
أحدها : أن يكون
المصالح عنه حقّاً ثابتاً للمصالح في المحلّ :
وعلى ذلك : فما لا
يكون حقّاً له ، أو لا يكون حقّاً ثابتاً له في المحلّ لا يجوز الصّلح عنه ، حتّى
لو أنّ امرأةً طلّقها زوجها ادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها ، وجحد
الرّجل، فصالحت عن النّسب على شيء فالصّلح باطل ؛ لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ لا
حقّها ، فلا تملك الاعتياض عن حقّ غيرها ؛ ولأنّ الصّلح إمّا إسقاط أو معاوضة ،
والنّسب لا يحتملهما. وكذا لو صالح الشّفيع من الشّفعة الّتي وجبت له على شيء ،
على أن يسلّم الدّار للمشتري فالصّلح باطل ؛ لأنّه لا حقّ للشّفيع في المحلّ ،
إنّما الثّابت له حقّ التّملّك ، وهو ليس لمعنىً في المحلّ ، بل هو عبارة عن
الولاية ، وأنّها صفة الوالي فلا يحتمل الصّلح عنه ، وهو قول الجمهور - خلافاً
للمالكيّة - فيجوز عندهم الصّلح عن الشّفعة .
وكذلك لو صالح الكفيل
بالنّفس المكفول له على مال ، على أن يبرّئه من الكفالة فالصّلح باطل ؛ لأنّ
الثّابت للطّالب قبل الكفيل بالنّفس حقّ المطالبة بتسليم نفس المكفول بنفسه ، وذلك
عبارة عن ولاية المطالبة ، وأنّها صفة الوالي فلا يجوز الصّلح عنها كالشّفعة .
أمّا لو ادّعى على
رجل مالاً وأنكر المدّعى عليه ، ولا بيّنة للمدّعي ، فطلب منه اليمين فصالح عن
اليمين على أن لا يستحلفه جاز الصّلح وبرئ من اليمين ، بحيث لا يجوز للمدّعي أن
يعود إلى استحلافه . وكذا لو قال المدّعى عليه : صالحتك من اليمين الّتي وجبت لك
عليّ. أو قال : افتديت منك يمينك بكذا وكذا صحّ الصّلح ؛ لأنّ هذا صلح عن حقّ ثابت
للمدّعي ؛ لأنّ اليمين حقّ للمدّعي قبل المدّعى عليه ، وهو ثابت في المحلّ - وهو
الملك في المدّعي في زعمه - فكان الصّلح في جانب المدّعي عن حقّ ثابت في المحلّ ،
وهو المدّعي، وفي جانب المدّعى عليه بذل المال لإسقاط الخصومة والافتداء عن اليمين
. قاله الكاسانيّ . ونصّ الحنفيّة والحنابلة : على أنّه لو ادّعى رجل على المرأة
نكاحاً فحجّته ، وصالحته على مال بذلته حتّى يترك الدّعوى جاز هذا الصّلح ؛ لأنّ
النّكاح حقّ ثابت في جانب المدّعي حسب زعمه ، فكان الصّلح على حقّ ثابت له ،
والدّافع يقطع به الخصومة عن نفسه ، فكان في معنى الخلع .
والثّاني : أن يكون
ممّا يصحّ الاعتياض عنه :
أي : أن يكون ممّا
يجوز أخذ العوض عنه ، سواء أكان ممّا يجوز بيعه أو لا يجوز ، وسواء أكان مالاً أو
غير مال .
وعلى ذلك : فيجوز
الصّلح عن قود نفس ودونها ، وعن سكنى دار ونحوها ، وعن عيب في عوض أو معوّض ،
قطعاً للخصومة والمنازعة .
ومتى صالح عمّا يوجب
القصاص بأكثر من ديته أو أقلّ جاز . لقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فقوله عزّ
وجلّ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
} أي : أعطى له . كذا
روي عن عبد اللّه بن عبّاس - رضي الله عنهما - وقوله عزّ شأنه { فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ } أي : فليتبع "
مصدر بمعنى الأمر " فقد أمر اللّه تعالى الوليّ بالاتّباع بالمعروف إذا أعطي
له شيء ، واسم الشّيء يتناول القليل والكثير ، فدلّت الآية على جواز الصّلح عن
القصاص على القليل والكثير . وقال الزّيلعيّ : ولأنّ القصاص حقّ ثابت في المحلّ ،
ويجري فيه العفو مجّاناً ، فكذا تعويضاً لاشتماله على الأوصاف الجميلة من إحسان
الوليّ ، وإحياء القاتل ... والكثير والقليل سواء في الصّلح عن القصاص ؛ لأنّه ليس
فيه شيء مقدّر ، فيفوّض إلى اصطلاحهما ، كالخلع على مال .
أمّا إذا صالح عن قتل
الخطأ بأكثر من ديته من جنسها لم يجز . وكذلك لو أتلف شيئاً غير مثليّ لغيره ،
فصالح عنه بأكثر من قيمته من جنسها لم يجز أيضاً ، وذلك لأنّ الدّية والقيمة ثبتت
في الذّمّة مقدّرةً ، فلم يجز أن يصالح عنها بأكثر من جنسها الثّابتة عن قرض أو
ثمن مبيع ؛ ولأنّه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقّه وزيادةً لا مقابل لها ، فيكون
أكل مال بالباطل . فأمّا إذا صالحه على غير جنسها بأكثر من قيمتها ، فيجوز ؛ لأنّه
بيع ، ويجوز للمرء أن يشتري الشّيء بأكثر من قيمته أو أقلّ ؛ ولأنّه لا ربا بين
العوض والمعوّض عنه فصحّ . وبناءً على ما تقدّم : لا يجوز الصّلح على
ما لا يجوز أخذ العوض عنه ، مثل أن يصالح امرأةً على مال لتقرّ له بالزّوجيّة ؛
لأنّه صلح يحلّ حراماً ؛ ولأنّها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز .
الثّالث : أن يكون
معلوماً :
وقد اختلف الفقهاء في
اشتراطه أو في مداه على ثلاثة أقوال :
أحدها للشّافعيّة :
وهو عدم صحّة الصّلح عن المجهول .
قال الإمام الشّافعيّ
في " الأمّ " : أصل الصّلح أنّه بمنزلة البيع ، فما جاز في البيع جاز في
الصّلح ، وما لم يجز في البيع لم يجز في الصّلح ، ثمّ يتشعّب ... ولا يجوز الصّلح
عندي إلاّ على أمر معروف ، كما لا يجوز البيع إلاّ على أمر معروف ، وقد روي عن عمر
- رضي الله عنه - : « الصّلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو
حرّم حلالاً » .
ومن الحرام الّذي يقع
في الصّلح أن يقع عندي على المجهول الّذي لو كان بيعاً كان حراماً .
هذا ، وقد نصّ
الشّافعيّة على صحّة الصّلح عن المجمل عندهم ، فلو ادّعى عليه شيئاً مجملاً فأقرّ
له به وصالحه عنه على عوض ، صحّ الصّلح .
قال الشّيخ أبو حامد
وغيره : هذا إذا كان المعقود عليه معلوماً لهما فيصحّ الصّلح وإن لم يسمّياه ، كما
لو قال : بعتك الشّيء الّذي نعرفه أنا وأنت بكذا فقال : اشتريت صحّ .
والثّاني للحنفيّة :
وهو أنّه يشترط كون المصالح عنه معلوماً إن كان ممّا يحتاج إلى التّسليم، فإنّه
لمّا كان مطلوب التّسليم اشترط كونه معلوماً لئلاّ يفضي إلى المنازعة .
جاء في فتاوى قاضي
خان : إذا ادّعى حقّاً في دار رجل ولم يسمّ ، فاصطلحا على مال معلوم يعطيه المدّعي
ليسلّم المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي لا يصحّ هذا الصّلح ؛ لأنّ المدّعى عليه
يحتاج إلى تسليم ما ادّعاه المدّعي ، فإذا لم يعلم مقدار ذلك لا يدري ماذا يسلّم
إليه ، فلا يجوز .
أمّا إذا كان ممّا لا
يحتاج التّسليم - كترك الدّعوى مثلاً - فلا يشترط كونه معلوماً ؛ لأنّ جهالة
السّاقط لا تفضي إلى المنازعة ، والمصالح عنه هاهنا ساقط ، فهو بمنزلة الإبراء عن
المجهول ، وهو جائز . قال الإسبيجابيّ : لأنّ الجهالة لا تبطل العقود لعينها ،
وإنّما تبطل العقود لمعنىً فيها ، وهو وقوع المنازعة . فإن كان ممّا يستغنى عن
قبضه ولا تقع المنازعة في ثاني الحال فيه جاز ، وإن كان ممّا يحتاج إلى قبضه ،
وتقع المنازعة في ثاني الحال عند القبض والتّسليم لم يجز .
والثّالث للمالكيّة
والحنابلة : وهو التّفريق بين ما إذا كان المصالح عنه ممّا يتعذّر علمه . وبين ما
إذا كان ممّا لا يتعذّر .
فإن كان ممّا يتعذّر
علمه ، فقد نصّ المالكيّة والحنابلة على صحّة الصّلح عنه .
قال الحنابلة : سواء
أكان عيناً أم ديناً ، وسواء جهلاه أو جهله من عليه الحقّ ، وسواء أكان المصالح به
حالّاً أو نسيئةً ، واستدلّوا على ذلك :
أ - بما ورد عن أمّ
سلمة - رضي الله عنها - قالت : « جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس بينهما بيّنة ، فقال رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّكم تختصمون إليّ ، وإنّما أنا بشر ، ولعلّ بعضكم
ألحن بحجّته أو قد قال : لحجّته من بعض ، فإنّي أقضي بينكم على نحو ممّا أسمع ،
فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار ، يأتي
بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة . فبكى الرّجلان ، وقال كلّ واحد منهما حقّي لأخي
. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمّا إذ قلتما ، فاذهبا ، فاقتسما ثمّ
توخّيا الحقّ ، ثمّ استهما ، ثمّ ليحلل كلّ واحد منكما صاحبه » .
ب - ولأنّه إسقاط حقّ
، فصحّ في المجهول كالطّلاق للحاجة .
ج - ولأنّه إذا صحّ
الصّلح مع العلم وإمكان أداء الحقّ بعينه فلأن يصحّ مع الجهل أولى . وذلك لأنّه
إذا كان معلومًا فلهما طريق إلى التّخلّص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ، ومع
الجهل لا يمكن ذلك ، فلو لم يجز الصّلح لأفضى ذلك إلى ضياع الحقّ ، أو بقاء شغل
الذّمّة على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كلّ واحد منهما قدر حقّه منه .
أمّا إذا كان ممّا لا
يتعذّر علمه ، كتركة باقية ، صالح الورثة الزّوجة عن حصّتها منها مع الجهل بها .
فقال المالكيّة ، وأحمد في قول له : لا يجوز الصّلح إلاّ بعد المعرفة بذلك .
وقال الحنابلة في
المشهور عندهم : يصحّ لقطع النّزاع .
الشّروط المتعلّقة
بالمصالح به :
المصالح به ، أو
المصالح عليه : هو بدل الصّلح . وشروطه عند الفقهاء اثنان .
أحدهما : أن يكون
مالاً متقوّماً :
وعلى ذلك ، فلا يصحّ
الصّلح على الخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدّم ، وصيد الإحرام والحرم ، وذلك
لأنّ في الصّلح معنى المعاوضة ، فما لا يصحّ عوضاً في البياعات لا يصحّ جعله بدل
صلح ، ولا فرق بين أن يكون المال ديناً أو عيناً أو منفعةً .
فلو صالحه على مقدار
من الدّراهم ،أو على سكنى دار أو ركوب دابّة وقتاً معلوماً صحّ ذلك. قال الكاسانيّ
: الأصل أنّ كلّ ما يجوز بيعه وشراؤه يجوز الصّلح عليه ، وما لا فلا .
والثّاني : أن يكون
معلوماً :
وعلى ذلك قال
الحنابلة : فإن وقع الصّلح بمجهول لم يصحّ ؛ تسليمه واجب والجهل يمنعه . أمّا
الحنفيّة ، فقد فصّلوا في المسألة وقالوا : يشترط كون المصالح به معلوماً إن كان
ممّا يحتاج إلى القبض والتّسليم ؛ لأنّ جهالة البدل تؤدّي إلى المنازعة ، فتوجب
فساد العقد ، أمّا إذا كان شيئاً لا يفتقر إلى القبض والتّسليم فلا يشترط
معلوميّته ، مثل أن يدّعي حقّاً في دار رجل ، وادّعى المدّعى عليه حقّاً في أرض
بيد المدّعي فاصطلحا على ترك الدّعوى جاز ، وإن لم يبيّن كلّ منهما مقدار حقّه ؛
لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة .
قال الكاسانيّ : لأنّ
جهالة البدل لا تمنع جواز العقد لعينها ، بل لإفضائها إلى المنازعة المانعة من
التّسليم والتّسلّم ، فإذا كان مالاً يستغنى عن التّسليم والتّسلّم فيه ، لا يفضي
إلى المنازعة فلا يمنع الجواز .
آثار الصّلح :
قال الفقهاء : إنّ
الآثار المترتّبة على انعقاد الصّلح هو حصول البراءة عن الدّعوى ووقوع الملك في
بدل الصّلح للمدّعي ، وفي المصالح به للمدّعى عليه إن كان ممّا يحتمل التّمليك ،
وأنّ الصّلح يعتبر بأقرب العقود إليه - إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا
للألفاظ والمباني - فما كان في معنى البيع أو الإجارة أو الإسقاط أخذ حكمه .
وعلى ذلك قالوا : إذا
تمّ الصّلح على الوجه المطلوب دخل بدل الصّلح في ملك المدّعي ، وسقطت دعواه
المصالح عنها ، فلا يقبل منه الادّعاء بها ثانياً ، ولا يملك المدّعى عليه استرداد
بدل الصّلح الّذي دفعه للمدّعي .
وأصل ذلك : أنّ
الصّلح من العقود اللّازمة ، فلذلك لا يملك أحد العاقدين فسخه ، أو الرّجوع عنه
بعد تمامه أمّا إذا لم يتمّ فلا حكم له ولا أثر يترتّب عليه . فلو
ادّعى أحد على آخر حقّاً وتصالح مع المدّعى عليه على شيء ، ثمّ ظهر بأنّ ذلك الحقّ
أو المال لا يلزم المدّعى عليه فلا يتمّ ولا حكم له ، وللمدّعى عليه استرداد بدل
الصّلح ، وكذلك لو تصالح البائع مع المشتري عن خيار العيب ، ثمّ ظهر عدم وجود
العيب ، أو زال العيب من نفسه وبدون معالجة أو كلفة بطل الصّلح ، ويجب على المشتري
ردّ بدل الصّلح الّذي أخذه للبائع . وكذا إذا كان المدّعي مبطلاً وغير محقّ في
دعواه ، فلا يحلّ له ديانةً بدل الصّلح في جميع أنواع الصّلح ، ولا يطيب له ، ما
لم يسلّم المدّعى عليه للمدّعي بدل الصّلح عن طيب نفس ، وفي تلك الحالة يصبح
التّمليك بطريق الهبة .
وعلى أساس ما تقدّم
نصّ الفقهاء على : أنّه إذا مات أحد المتصالحين بعد تمام الصّلح ، فليس لورثته
فسخه .
وقال المالكيّة : من
ادّعى على آخر حقًّا ، فأنكره ، فصالحه ، ثمّ ثبت الحقّ بعد الصّلح باعتراف أو
بيّنة فله الرّجوع في الصّلح ، إلاّ إذا كان عالمًا بالبيّنة وهي حاضرة ولم يقم
بها، فالصّلح له لازم . أمّا إذا كان أحد المتصالحين قد أشهد قبل الصّلح إشهاد
تقيّة : أنّ صلحه إنّما هو لما يتوقّعه من إنكار صاحبه أو غير ذلك ، فإنّ الصّلح
لا يلزمه إذا ثبت أصل حقّه .
ما يترتّب على انحلال
الصّلح :
إذا بطل الصّلح بعد
صحّته ، أو لم يصحّ أصلاً فيرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصّلح عن إنكار .
وإن كان عن إقرار فيرجع على المدّعى عليه بالمدّعى لا غيره ، إلاّ في الصّلح عن
القصاص إذا لم يصحّ فإنّ لوليّ الدّم أن يرجع على القاتل بالدّية دون القصاص ،
إلاّ أن يصير مغروراً من جهة المدّعى عليه ، فيرجع عليه بضمان الغرور أيضاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق